الجمعة 05 ديسمبر 2025

صفعة مدوية إفريقيًا ودوليًا… المغرب يفشل في امتحان دبلوماسي جديد أمام الجزائر

نُشر في:
بقلم: محمد ك
صفعة مدوية إفريقيًا ودوليًا… المغرب يفشل في امتحان دبلوماسي جديد أمام الجزائر

لم تعد القارة الإفريقية اليوم ساحة مفتوحة للارتجال الدبلوماسي أو للمبادرات الفردية الخارجة عن المؤسسات، ففي زمن تتعاظم فيه أدوار الاتحاد الإفريقي كمركز للقرار القاري، تتضح بجلاء خطوط الفارق بين الدول التي تعمل بالشرعية وبالتفويض، وتلك التي تحاول فرض نفسها بالضجيج والرموز الفارغة.

وهنا يظهر المثال الأوضح في المشهد الراهن: الجزائر والمغرب، فالأولى تتحرك في قلب المؤسسات، والثانية تبحث عن مكان في هوامشها.

الجزائر… حضور قوي في إفريقيا من بوابة الشرعية والقرار

منذ سنوات، أعادت الجزائر بناء حضورها الإفريقي بخطة واضحة المعالم: الاشتغال داخل الإطار القاري، والتموقع في الملفات السيادية الحساسة، وتثبيت موقعها كصوت شرعي للعدالة والسلم في القارة، وهذا لم يكن مجرد شعار دبلوماسي، بل مساراً مدروساً تُرجم في ممارسات ومبادرات مؤسسية معتمدة من الاتحاد الإفريقي نفسه.

الجزائر العاصمة احتضنت في الأيام القليلة الماضية، حدثين من الوزن الثقيل، لا لبس في شرعيتهما، الأول هو المؤتمر الدولي حول جرائم الاستعمار في إفريقيا: نحو تصحيح المظالم التاريخية من خلال تجريم الاستعمار، يومي 30 نوفمبر و01 ديسمبر 2025، والثاني أشغال الطبعة الثانية عشر للندوة رفيعة المستوى حول السلم والأمن في إفريقيا “مسار وهران”، يومي 01 و02 ديسمبر 2025، على مستوى المركز الدولي للمؤتمرات “عبد اللطيف رحال”.

كلا الحدثين لم يكونا نشاطين رمزيين أو مناسبات بروتوكولية، بل فعّاليتين ناتجتين عن قرارات رسمية صادرة عن قمم الاتحاد الإفريقي، ما يعني أن الجزائر كانت تشتغل من داخل الشرعية لا من خارجها.

1. المؤتمر الدولي حول جرائم الاستعمار في إفريقيا… الجزائر تفتح ملف الذاكرة القارية

قرار الاتحاد الإفريقي رقم 903 الصادر في فيفري 2025، صادق بالإجماع على مبادرة رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، بتنظيم مؤتمر دولي حول جرائم الاستعمار في إفريقيا. هذه المبادرة ليست حدثاً عادياً؛ إنها سابقة سياسية وقانونية تعيد الاعتبار لذاكرة الشعوب الإفريقية التي دفعت أثماناً باهظة للاستعمار، وتضع الأسس الأولى لمسار عدالة تاريخية طالما تجنّبها كثيرون.

الجزائر، التي خاضت ثورة تحررية عظيمة، أصبحت مرجعاً عالمياً في حركات التحرر، تتحدث اليوم باسم ضمير القارة، وتُذكّر أوروبا وكل القوى الاستعمارية السابقة بأن الماضي لا يُمحى بالتصريحات بل بالمحاسبة والاعتراف وجبر الضرر.

ومن هنا، من الجزائر، يصبح هذا المؤتمر أكثر من مجرد نشاط أكاديمي؛ هو بيان سياسي قاري يُعيد رسم معالم العلاقة بين إفريقيا والعالم الخارجي على قاعدة الكرامة والسيادة.

2. الندوة رفيعة المستوى حول السلم والأمن في إفريقيا “مسار وهران”… آلية قارية بامتياز

منذ تأسيسها عام 2013، شكّلت الندوة رفيعة المستوى حول السلم والأمن في إفريقيا (مسار وهران)، نموذجاً للدبلوماسية الجزائرية المتوازنة والعميقة. ففي 2022، تحولت رسمياً إلى آلية دائمة بموجب قرار الاتحاد الإفريقي رقم 815، لتصبح اليوم أحد أهم الفضاءات التي تُصاغ فيها توجهات القارة الافريقية، وكذا التنسيق الفعلي والفعال بين أعضاء السلم والأمن وممثلي أفريقيا في مجلس الأمن الدولي.

وبدوره، كان وزير الدولة وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج والشؤون الافريقية أحمد عطاف، قد نوه بالمشاركة اللافتة في أشغال هذه الطبعة، ولأول مرة منذ إطلاق مسار وهران، لممثلي الدول المنتخبة لعضوية مجلس الأمن الأممي من خارج القارة الإفريقية.

واعتبر أن هذه “المشاركة النوعية والوازنة، والتي جمعت فعليا بين المكانة الرفيعة للمشاركين والعدد الكبير للوفود التي لبت الدعوة، لهي أبلغ دليل على الصدى الواسع والاهتمام المتزايد الذي صار يحظى به “مسار وهران” على المستويين القاري والدولي”.

وأضاف في هذا الخصوص: “الجزائر لا تجد في هذا الزخم المتجدد والمتنامي إلا مبعثا للاعتزاز ومصدرا للتحفيز، وهي تتصدر هذا المسعى القاري الهادف لتوحيد الصوت الإفريقي وتعزيز تأثيره وصداه في مجلس الأمن الأممي وفي كافة منابر العمل الدولي متعدد الأطراف”.

الطبعة الثانية عشرة حملت دلالات خاصة: حضور قاري ودولي واسع غير مسبوق، أبرزهم رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي محمد علي يوسف، في أول مشاركة له في مسار وهران منذ إنشائه، فهذا الحضور ليس مجرد مجاملة، بل إشارة مؤسساتية قوية إلى أن الاتحاد الإفريقي يعتبر الجزائر مركزاً محورياً في هندسة السلم والأمن القاريين.

كما شارك في الحدثين القاريين وزراء خارجية من عشرات الدول الإفريقية، ونواب وزراء من قارات مختلفة، وكبار مسؤولي الأمم المتحدة على رأسهم الأمين العام المساعد لعمليات حفظ السلام “جان بيير لاكروا”، مفوض الأمن والسلم الأفريقي، ونائب الأمين العام للشؤون الإفريقية “بارفيه أونانغا أنيانغا”، المبعوث الأممي لإسكات البنادق، وغيرهم. كل هذه الأسماء تمثل اعترافاً عملياً بالدور المتنامي للجزائر.

رمزية الحضور ووزن الشرعية

حين يجتمع هذا العدد من المسؤولين والقيادات في الجزائر، فإن الرسالة واضحة:
الجزائر ليست مجرد عضو في الاتحاد الإفريقي، بل هي ركيزة أساسية في قراراته.
ومن خلال عضويتها الحالية في مجلس السلم والأمن (2024–2026)، تكرّس الجزائر موقعها كصوت عقلاني متوازن قادر على بناء التوافقات، لا على افتعال الأزمات، وهذا ما يمنح فعاليات الجزائر طابعاً مؤسسياً لا يمكن لأي طرف إنكاره، لأنها تتحرك بقرارات قارية، لا بإعلانات إعلامية.

المغرب… تغريد خارج التفويض ومحاولة بائسة لخلق “توازن رمزي”

في الجهة المقابلة، اختار المغرب أن ينظم في الرباط ما أسماه “المؤتمر الأول للضحايا الأفارقة للإرهاب”، في توقيت موازٍ تماماً لفعاليات الجزائر، ورغم أن العنوان يبدو جذاباً، إلا أن التفاصيل تكشف واقعاً آخر تماماً: مبادرة بلا تفويض، بلا تمثيل، وبلا عمق سياسي حقيقي.

تمثيل أممي هزيل… عنوانه “بالنيابة”

الضيف الأممي في الرباط لم يكن الأمين العام المساعد لمكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب، بل شخص يشغل المنصب “بالنيابة”، أي أنه تمثيل مؤقت يفتقر إلى الوزن الدبلوماسي، وهو ما يعكس محدودية الاهتمام الأممي بالمؤتمر نفسه.

ففي لغة الدبلوماسية، مستوى التمثيل يحدد حجم الاعتراف، وعندما يكون الحضور بالنيابة، فهذا يعني أن المنظمة المعنية لم تعتبر الحدث ذا أولوية.

حضور إفريقي محدود ومنقوص الشرعية

اقتصر الحضور الإفريقي على ممثلين من دول تعرف وضعيات انقلابية، تخضع حكوماتها لعقوبات صادرة عن الاتحاد الإفريقي مثل مالي وبوركينا فاسو، هذا يعني ببساطة أن المؤتمر لم يكن تمثيلاً للقارة، بل تجمّعاً لدول خارجة عن الشرعية القارية نفسها.

كيف يمكن لدولة تتحدث باسم إفريقيا أن تجمع حولها دولاً جُمدت عضويتها داخل الاتحاد؟! إنها مفارقة دبلوماسية تكشف عمق العزلة المغربية داخل المؤسسات الإفريقية، رغم كل محاولات التسويق الإعلامي.

ملف خارج الاختصاص

الاتحاد الإفريقي منح الجزائر تفويضاً رسمياً لقيادة ملفات السلم والأمن، وهو ما تُترجمه فعلياً ندوة وهران. في المقابل، لم يفوض المغرب بملف الإرهاب ولا الأمن.

وبذلك يكون المؤتمر المغربي خارج التفويض القاري، وخارج اختصاصاته الرسمية، مما يجعل الحدث بلا غطاء مؤسساتي ولا اعتراف قانوني. إنها محاولة واضحة لاقتحام مجال ليس من صلاحياته، في مسعى لإظهار دور لا يملكه.

توقيت مستفز ودلالاته السياسية

اختيار المغرب لتنظيم مؤتمره في نفس توقيت مؤتمرات الجزائر الرسمية ليس مصادفة، بل محاولة دعائية لخلق مشهد “توازن رمزي” يوحي للرأي العام بأن الرباط تنافس الجزائر على الساحة القارية، غير أن المقارنة بين الحدثين كانت كفيلة بنسف هذا الوهم.

ففي الوقت الذي احتشدت فيه شخصيات الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة في الجزائر، اكتفى المغرب بحضور رمزي متواضع. فالفارق هنا لم يكن في التوقيت فحسب، بل في الشرعية، والمستوى، والمضمون.

قراءة تحليلية للفارق بين النموذجين الدبلوماسيين

الفارق بين الجزائر والمغرب في هذا المشهد ليس صدفة، بل نتيجة لخيارين دبلوماسيين متناقضين جذرياً.

الجزائر تشتغل داخل المؤسسات… فتربح الشرعية والمصداقية

منذ سنوات، اختارت الجزائر أن تعود إلى إفريقيا من باب الاتحاد الإفريقي لا من نوافذه الجانبية، حيث استثمرت في عضويتها بمجلس السلم والأمن، وأقامت علاقات ثقة مع مفوضية الاتحاد، ونسّقت مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي في القضايا القارية الكبرى.

وبذلك، أعادت بناء صورتها كفاعل مؤسسي يحظى بالاحترام والتقدير، فالشرعية بالنسبة للجزائر ليست شعاراً، بل مسار قانوني وسياسي متكامل.

المغرب يبحث عن دور مفقود… فيتحرك خارج التفويض

في المقابل، يعيش المغرب أزمة هوية دبلوماسية داخل إفريقيا، فمنذ عودته إلى الاتحاد الإفريقي، حاول فرض نفسه كلاعب رئيسي، لكنه اصطدم بواقع واضح: الاتحاد الإفريقي لا يمنح القيادة لمن يسعى لتجاوز قراراته أو يخرق ميثاقه.

ومع كل محاولة للالتفاف على المؤسسات، يجد المغرب نفسه أكثر عزلة، وأكثر انكشافاً، ومؤتمره الأخير في الرباط ليس سوى رد فعل يائس على النجاح الدبلوماسي الجزائري، ومحاولة لتغطية الفراغ بشرعية وهمية.

الجزائر تملك رأسمالاً دبلوماسياً متجذراً

الجزائر ليست حديثة عهد بالدبلوماسية الإفريقية، فمنذ الاستقلال، كانت من مؤسسي منظمة الوحدة الإفريقية، ومن أبرز الداعمين لحركات التحرر في القارة، تاريخها في الوساطة معروف، إنها دولة تُستدعى للحلول لا للأزمات، وتُحترم مواقفها لأنها مبنية على مبادئ لا على مصالح آنية وضيقة.

هذه الخبرة التاريخية هي ما يمنح الجزائر مصداقية، لا يمكن للمغرب تقليدها مهما ضخّم من مبادراته الإعلامية.

المغرب في مأزق سياسي متزايد

أما المغرب، فمشكلته الكبرى أنه يحاول الجمع بين التناقضات: يطبّع مع الكيان الصهيوني من جهة، ويحاول التحدث باسم إفريقيا من جهة أخرى، يخالف قرارات الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة حول الصحراء الغربية، ثم يدّعي الدفاع عن الشرعية القارية.

هذا الازدواج يجعل خطابه فاقداً للاتساق، ويدفع كثيراً من الدول الإفريقية إلى التعامل معه بحذر وريبة، وبينما تتراكم هذه التناقضات، تتراجع مكانة المغرب في الأطر الجماعية، مقابل صعود الجزائر بثقة وثبات.

المشهد الإفريقي الراهن لم يعد يحتمل “الاستعراضات” السياسية. فالقارة أمام تحديات هائلة: نزاعات داخلية، انقلابات، ضغوط اقتصادية، وتدخلات خارجية، وفي هذا السياق، تبرز الجزائر كصوت متزن يسعى لبناء السلم، بينما يظهر المغرب كلاعب هامشي يبحث عن دور إعلامي لا أكثر.

فالجزائر، عبر مؤتمر جرائم الاستعمار، فتحت جبهة العدالة التاريخية، وعبر ندوة وهران ترسخ القيادة في ملف السلم والأمن.

أما المغرب، فقد اختار أن يخلق “حدثاً مصطنعاً” بلا أثر ولا نتائج، يقدّم من خلاله صورة مزيفة عن نفسه كفاعل قاري. إنها المفارقة التي تلخّص التحول في ميزان النفوذ داخل القارة: الجزائر تصنع القرار… والمغرب يركض خلف الصورة.

الجزائر تصنع التاريخ… والمغرب يطارد الوهم

وفي الختام، تتحرك الجزائر اليوم من موقع الدولة الموثوقة داخل الاتحاد الإفريقي، دولة الشرعية والقرار والمصداقية، وفي المقابل، يقف المغرب على الضفة الأخرى، يكرر نفس الأخطاء: استعراضات بلا مضمون، مؤتمرات بلا تفويض، وتحركات بلا أثر.

الفارق بين الطرفين أصبح صارخاً: الجزائر تدير المؤتمرات التي يكتب فيها التاريخ الإفريقي الجديد، والمغرب يبحث عن لقطات إعلامية تغطي فراغه السياسي.

وفي النهاية، حين تُذكر إفريقيا في سياق الشرعية القارية، تُذكر الجزائر…
وحين يُذكر “العمل خارج التفويض”، يُذكر المغرب… وفي السياسة، من يملك الشرعية… يملك التاريخ.

رابط دائم : https://dzair.cc/mdq4 نسخ

اقرأ أيضًا