في لحظة دولية تتسم بتشابك المصالح وتراجع الاعتبارات المبدئية أمام حسابات القوة والنفوذ، برزت عضوية الجزائر غير الدائمة في مجلس الأمن الدولي كاختبار حقيقي لثبات المواقف وقدرة الدبلوماسية على تحويل المبادئ إلى فعل سياسي مؤثر. فقد اختارت الجزائر، منذ اليوم الأول، ألا تكون عضويتها شكلية أو محايدة، بل انخرطت بوضوح في معركة الدفاع عن القضايا العادلة، وفي مقدمتها حق الشعب الصحراوي غير القابل للتصرف في تقرير المصير.
هذا الحضور الجزائري لم يكن ردّ فعل ظرفيا، بل امتدادا لخط دبلوماسي متجذر، يرى في قضية الصحراء الغربية مسألة تصفية استعمار لم تُحسم بعد، لا ملفا قابلا للمقايضة أو الطيّ عبر المناورات. ورغم محاولات متكررة لإفراغ النزاع من جوهره القانوني، سواء عبر الضغط السياسي أو استغلال تقلب مواقف بعض القوى الدولية بدافع المصالح الاقتصادية، حافظت الجزائر على مقاربة قائمة على القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، رافضة الانزلاق نحو حلول مفروضة أو أحادية.
وخلال العامين الماضيين، استثمرت الجزائر كامل أدواتها الدبلوماسية داخل مجلس الأمن، تحت توجيهات رئاسية واضحة، وبقيادة نشطة لوزارة الشؤون الخارجية، لتسليط الضوء على جوهر القضية الصحراوية ومنع اختزالها في مقترحات تتعارض مع حق تقرير المصير. وقد تجسد هذا الجهد بشكل لافت في المسار الذي أفضى إلى اعتماد القرار الأممي الأخير المتعلق ببعثة “المينورسو”، حيث نجحت الجزائر، بالتنسيق مع دول أخرى، في إدخال تعديلات جوهرية أعادت التوازن للنص وأكدت من جديد المرجعية القانونية للنزاع.
الأهم في هذا السياق أن تلك التعديلات لم تكن تقنية أو لغوية فحسب، بل سياسية وقانونية بامتياز. إذ جرى تحويل مسودة كانت تميل إلى تكريس طرح أحادي، إلى نص منسجم مع قرارات مجلس الأمن السابقة، يعيد تثبيت الاستفتاء كآلية شرعية لتجسيد حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، ويغلق الباب أمام أي تأويل يهدف إلى فرض أمر واقع خارج الشرعية الدولية.
هذا المسار كشف، في المقابل، محدودية الضغوط الرامية إلى تمرير أطروحات لا تحظى بإجماع أممي، وأكد أن مجلس الأمن لم يتبنَّ مقاربة تُنهي النزاع خارج إطار الأمم المتحدة. فالملف الصحراوي، وفق هذا المنطق، لا يزال مطروحا بكامل أبعاده أمام أجهزة المنظمة الدولية، من مجلس الأمن إلى الجمعية العامة ولجنة تصفية الاستعمار، بما ينفي أي حديث عن “إغلاق” القضية أو تجاوزها.
وتتجاوز دلالات هذا الأداء الجزائري حدود الملف الصحراوي ذاته، لتعكس رؤية أوسع لدور الجزائر في النظام الدولي: دولة تسعى إلى إعادة الاعتبار لمبدأ الشرعية الدولية، وترفض تحويل المؤسسات الأممية إلى فضاءات لتكريس موازين القوة على حساب حقوق الشعوب. وهو ما يفسر اقتران الدفاع عن القضية الصحراوية بالدفاع عن قضايا أخرى، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، ضمن مقاربة واحدة تقوم على رفض الاحتلال ودعم حق الشعوب في الحرية والاستقلال.
في المحصلة، أكدت الجزائر، خلال عضويتها غير الدائمة في مجلس الأمن، أن الدبلوماسية ليست مجرد إدارة للأزمات، بل أداة لصون المبادئ عندما تتعرض للتآكل. وقدمت نموذجا لدولة متوسطة القوة، لكنها ثابتة البوصلة، قادرة على التأثير حين تقرن وضوح الموقف بحسن توظيف الآليات الدولية. وهو رصيد سياسي ومعنوي يتجاوز فترة العضوية نفسها، ويكرس موقع الجزائر كفاعل مبدئي في القضايا العادلة على الساحة الدولية.
