21 أغسطس، 2025
ANEP الخميس 21 أوت 2025

عندما تتكلم الصحافة بلغة الشارع: عبث لغوي أم ذكاء اتصالي… دزاير توب أنموذجا – مساهمة لعمار شريتي

نُشر في:
بقلم: عمار شريتي
عندما تتكلم الصحافة بلغة الشارع: عبث لغوي أم ذكاء اتصالي… دزاير توب أنموذجا – مساهمة لعمار شريتي

“هل يجب أن تكتب الصحافة بلغة الناس، أم بلغة الدولة الرسمية؟”

هذا السؤال البسيط في ظاهره يخفي خلفه معضلة عميقة في المشهد الإعلامي الجزائري. منذ عقود، ظل الخطاب الصحفي موزعًا بين العربية الفصحى باعتبارها الوعاء الرسمي والرمزي، وبين الدارجة الجزائرية بوصفها لغة الحياة اليومية والتواصل المباشر.

ومع تراجع معدلات المقروئية، والمنافسة الشديدة التي فرضتها وسائل التواصل الإجتماعي في سوق وسائل الإعلام، تعاظمت الحاجة إلى إعادة التفكير في لغة الصحافة: هل تبقى أسيرة للفصحى المعيارية، أم تنفتح على لغة المواطن اليومية؟

اللغة الفصحى: شرعية ورمزية

العربية الفصحى تحمل قيمة ثقافية ورمزية عالية فهي مرتبطة بالدستور، بالهوية الوطنية، وبالفضاء العربي الإسلامي الأوسع بالنسبة لقطاع معتبر من النخب والمؤسسات الإعلامية، الالتزام بالفصحى ليس مجرد خيار مهني، بل واجب للحفاظ على سلامة اللغة وتماسكها.

هنا يكمن الإدعاء بأنه : إذا نزلت الصحافة إلى اللهجة الدارجة، فإنها تضعف مكانة العربية في الفضاء العمومي، وتضعف مستوى الصحافة.

الدارجة: أداة القرب وكسر الحواجز

في المقابل، الدارجة الجزائرية تمثل اللغة الحية للمجتمع. هي لغة السوق والبيت والشبكات الاجتماعية. إدماجها في الصحافة – خصوصًا في المنصات الرقمية – يعكس إدراكًا لاتصالي مهم: الجمهور لا يقرأ بالضرورة بحثًا عن الجمالية اللغوية، بل طلبًا للفهم والوضوح.

هنا تصبح الدارجة وسيلة لكسر حاجز النفور من النصوص الجافة، وتحفيز فعل القراءة في بيئة تعاني أصلًا من ضعف المقروئية حتى من قبل المتعلمين.

الحقيقة هو أن الفصحى تواجه تحديات على مستوى الفهم والتفاعل، فيما تبرز الدارجة الجزائرية باعتبارها “لغة الحياة اليومية”، كما يسميها هابرماس في حديثه عن التداول اللغوي داخل الفضاء العمومي. إدماجها في الخطاب الإعلامي يُعيد للصحافة دورها كوسيط اجتماعي قريب من المواطن، يعبر بلغته ويخاطب حاجته المباشرة للفهم أكثر من حاجته للتنميق.

تجربة “دزاير توب”: بين الريادة والانتقاد

في هذا السياق، يبرز موقع “دزاير تيوب” كتجربة رائدة. اعتمد منذ سنوات على إدخال عبارات ومفردات من الدارجة الجزائرية في خطابه الصحفي، خصوصًا في العناوين والمحتوى الرقمي الموجه للشباب ولو بشكل متحكم فيه.

هذه الاستراتيجية ساعدته على بناء قاعدة جماهيرية واسعة على شبكات التواصل الاجتماعي، وخلقت حالة من التفاعل لم تستطع العديد من المواقع التقليدية تحقيقها.

غير أن هذه التجربة لم تخلُ من انتقادات؛ إذ يرى البعض أنها تضعف المعايير اللغوية، وتختزل الصحافة في “إثارة” على حساب الرصانة. مع ذلك، تبقى التجربة مؤشرًا على أن هناك مساحات جديدة في الاتصال الجماهيري لا يمكن تجاهلها خاصة وأنا إستعمال الكلمات الدارجة يبقى محدود الاستعمال.

بين السياسة التحريرية وتعددية الجمهور

الحل لا يكمن في إقصاء الفصحى أو الدارجة، بل في إدارة ذكية للتعددية اللغوية. فالمؤسسة الإعلامية مطالبة برسم سياسة تحريرية واضحة تحدد متى وكيف تُستخدم الدارجة، دون أن يكون ذلك على حساب الفصحى. هذا التنويع قد يسمح للصحافة الجزائرية بتوسيع قاعدة قرائها، ويمنح كل فئة من الجمهور ما يناسبها، من دون السقوط في الابتذال أو الانغلاق.

إشكالية اللغة في الصحافة الجزائرية ليست معركة لغوية فحسب، بل تعبير عن رهانات اجتماعية وثقافية. الفصحى تمنح الرأسمال الرمزي والشرعية، بينما الدارجة تمنح القرب والتأثير المباشر.

وبين الاثنين، يمكن للمؤسسات الإعلامية أن تبني سياسات تحريرية بذكاء اتصالي توازن بين الرصانة والفعالية الاتصالية فلا تنحرف إلى العبثية اللغوية.
تجربة “دزاير توب” رغم ما تثيره من جدل تظل مختبرًا مهمًا لفهم كيف يتغير الجمهور، وكيف ينبغي للخطاب الإعلامي أن يتغير معه، حتى يتمكن من تأدية رسالته الإعلامية.

مساهمة عمار شريتي صحفي وباحث في علم الإجتماع السياسي

من هو عمار شريتي؟

عمار شريتي، صحفي وخبير في الإعلام الرقمي، يشغل منصب رئيس تحرير موقع إلكتروني. باحث في علم الاجتماع السياسي ورئيس المجلس الوطني للصحفيين الجزائريين، وأستاذ سابق في معهد الإعلام والإتصال.

رابط دائم : https://dzair.cc/tu58 نسخ