الأحد 29 جوان 2025

كيف نشحذ السّيف من جديد .. بقلم الكاتبة السورية بسمة شيخو

نُشر في:
بقلم: الكاتبة السورية بسمة شيخو
كيف نشحذ السّيف من جديد .. بقلم الكاتبة السورية بسمة شيخو

أن تكون مناضلاً ثوريّاً محنّكاً، وأديباً رهيفاً حسّاساً مبدعاً أمرٌ نادرُ الحدوث إلى حدٍّ ما، فالجمع ما بين الصّلابة واللّين وما بين الواقع بقسوته مع الخيال بجماليته ليس أمراً طوع البنان، لكن عند محمد بوديّة ظهر هذا الأمر بصورةٍ طبيعيّةٍ جداً لا تترك مساحةً للاستغراب، لأن الفن والأدب والثّقافة معجونان بروحه، وما يحمله الأدب الحقيقي من مبادئ جعلت بوديّة غير قادرٍ إلّا على نصرة المظلوم والوقوف بجانبه من خلال كلمته وسلاحه أيضاً.

فبعد استقلال الجزائر 1962 تفرّغ لنصرة القضيّة الفلسطينيّة ودفع حياته ثمناً لذلك، واليوم في ظلّ ما تعيشه غزة نتذكّر بوديّة في ذكرى استشهاده ونحتاجه مناضلاً حكيماً أخلص لمبادئه حتى النّهاية.

ربما يعرف الكثيرون محمد بوديّة المناضل والشّهيد، لكنّهم يغفلون عن الأديب والشّاعر المميّز الذي كانه والصّحفيّ أيضاً، وأنا كنت مثلهم حتّى سمعت محاضرةً للرّوائي والمترجم والطّبيب سليم عبادو، عن بوديّة وكان ذلك ضمن فعاليات مهرجان أدب المقاومة الذي انعقد في الجزائر العاصمة العام الفائت، وقد قام مشكوراً بجمع النّصوص الأدبية لمحمد بوديّة وترجمتها ونشرها تحت عنوان “لا مكان تحت الشّمس)\شعر مسرح قصص مقالات، وبذلك حقّق رغبة محمد بوديّة –كما ذكر ابنه مراد بوديّة – بأن يكتب باللّغة العربيّة، وكانت تراوده فكرة الذّهاب إلى سوريا ودراسة العربيّة التي كان يدافع عنها بشراسة ويصفها باللغة الشّعرية الرّائعة رغم أنّ كلّ كتاباته كانت بلغة موليير، وهنا واحدة من نصوصه الشّعريّة:
“يلزم الكثير من الوقت..
الكثير من أجمل ما فينا..
ليُصبِح الرُّمحُ خُبزًا..
ليُصبِح السّيفُ حياةً..
لتصدَح البنادقُ بالسّعادة..
وكلّ شيء يُحطِّمُ..
ويحرقُ..
سيستمرّ في تنشيط عضلاتنا..
الطّامعة في أنْ تضمّ الحبّ إلى الأبد”.

اكتشف بوديّة موهبته في عمرٍ صغير 13 عام تقريباً، وفي مكان غريب وهو مركز بئر الخادم للأحداث، على إثر عمله لدى تاجر يهودي –بعد وفاة والده- وقد رفض ذاك منحه أجرته، فأخذها محمد بوديّة لوحده، مما جعل التّاجر اليهودي يتهمه بالسّرقة، وقضى فترةً هناك كانت مؤثرة للغاية في حياته حيث صعد خشبة المسرح لأول مرة، وبعد خروجه من المركز عمل على صقل موهبته المسرحية والأدبية، فعمل بالتمثيل والإخراج المسرحي.

وبعد بدء ثورة التّحرير التحق بصفوفها، وفي عام 1956 انتقل لفرنسا مناضلاً في فيدرالية جبهة التّحرير هناك، وأوكلت إليه قيادة الفرقة الخاصة التي قامت بتفجير خزّانات النّفط قرب مرسيليا، فاعتقلته القوات الفرنسية وسُجِن في سجن فران 1958 وهناك كانت فترة خصبة من النّواحي الفنيّة والفكريّة والسياسيّة أيضاً، فكتب مسرحيتين “ولادات” و “الزّيتونة” وترجم مسرحيات لموليير للعربية ليتمكّن السّجناء من تلقيها واستيعابها، وبعد ثلاثة أعوام تمكّن من الهرب بمساعدة أصدقاء لثورة التّحرير كانوا معه في السّجن وقدموا ندوات فكريّة مثل فرانسيس جونسون، فوصل لبلجيكا ثم سويسرا ليستقر في تونس حيث التحق بالفرقة الفنيّة لجبهة التّحرير وبقي هناك حتى إعلان الاستقلال.

الآن يستطيع بوديّة التّفرّغ للمسرح، فأسّس برفقة مجموعة من المثقفين المسرح الوطني الجزائري الذي صار مديره لاحقاً، وله الفضل في تأسيس مدرسة الفنون الدراميّة.

وأسّس أيضاً صحيفة “الجزائر هذا المساء” وأشرف على صحيفة “نوفمبر” التابعة لجبهة التّحرير، وقد أطلق “القطار الثقافي” الذي جال المدن الجزائرية الدّاخلية ناشراً الفنّ والمسرح.

ثم عاد إلى فرنسا واهتم بالمسرح فشغل مدير نشاطات لمسرح غرب باريس وعمل لجعله مسرحاً شعبياً كمسرح الجزائر لأن من يرتادونه كانوا من المغاربة.

التقى هناك بصديقه القديم المجاهد بشير بومعزة وسافر برفقته إلى هافانا عاصمة كوبا حيث التقيا هناك بقائد الجناح العسكري للجبهة الشّعبية لتحرير فلسطين، وانخرط بوديّة من يومها في مقاومة الظّلم في العالم والكيان الصّهيوني المحتلّ للأرض العربية كان في المقدّمة فلُقّب بأبي الثّورتين –ثورة التّحرير الجزائرية والثّورة الفلسطينية- واتخذ لقباً حركيّاً وهو “أبو ضياء”.

وما فعله ليس غريباً على الجزائريين، فمنذ قرون ويد “سيدي أبو مدين شعيب” المدفونة في القدس تلوّح لهم حتى اليوم، فنجد أنظارهم مشدودةً نحو الأقصى طوال الوقت.

التحق بجامعة “باتريس لومومبا” في موسكو بتوصية من وديع حدّاد أبرز قادة الجبهة الشّعبية لتحرير فلسطين، وذلك لتعزيز قدراته العسكريّة والاستراتيجيّة، وهناك تعرّف على الكثير من الثّوار الشّباب ومنهم الفنزويلي إيليتيش سانشيز راميريز والذي عرف لاحقاً باسم “كارلوس الثّعلب” الذي صار لاحقاً رمزاً للنضال ضد الإمبرياليّة، ونجح بوديّة بتجنيده لخدمة القضيّة الفلسطينيّة.

أنشأ بوديّة علاقةً مميّزةً مع منظمة أيلول الاسود، وخطّط للكثير من الأعمال مستفيداً من علاقاته الواسعة وأصدقائه المنوّعين ما بين مغاربة وفرنسيين ولاتينين.

كذلك نسج شبكات مع عدد من التنظيمات المناهضة للإمبريالية حول العالم (إيطاليا، ألمانيا، أميركا اللاتينية واليابان) وقد نجح بتجنيد بعض أعضائها للنّضال إلى جانب الشّعب الفلسطيني، وقام هو بذاته ببعض العمليات في استهداف ضباط الموساد، وكان إلى حين فضح أمره يعيش حياة طبيعية ولم يترك المسرح يوماً فهو شغفه الأول فكان نهاراً مسرحيّاً وشاعراً واللّيل مناضل، وقد صعب على الموساد معرفة مكانه لإتقان بوديّة للمسرح وفنون التنكّر، وعندما أرادوا اغتياله استغرق ذلك شهوراً طويلة حتّى وصلوا إليه، وأطلق عليه الرّجل ذو المئة وجه أو الرّجل ذو اللّحية الزرقاء أيضاً، إلى أن تمكّنوا من رصده بعد عناء كبير، وفخّخوا سيارته بتقنية جديدة استُعمِلت لأجله أول مرة لأنّه كان يكتشف التفخيخ والمتفجرات التقليديّة بسهولة.

خلف مقود سيارة رينو 16 رماديّة الّلون انتهت قصة حياة الثّائر والشّاعر والمسرحي محمّد بوديّة، في يوم الخميس 28 حزيران من عام 1973 ضمن عملية “غضب الرّب” التي أمرت بها غولدا مائير وهي عبارة عن حملة اغتيالات للانتقام من مجموعة أيلول الأسود.

لكنّ حضور بوديّة في النّضال لصالح القضيّة الفلسطينية لم ينته بوفاته فقد نفّذ “كارلوس الثّعلب” 1975 عملية احتجاز وزراء النّفط المشاركين في مؤتمر منظمة أوبك المنعقد في فينا، طالباً فدية خمسين مليون دولار لدعم حركات التّحرر وخاصةً القضيّة الفلسطينيّة، وسمّى العملية بعملية الشّهيد محمد بوديّة تكريماً له وعرفاناً منه بفضله، وإبرازاً للقضيّة الفلسطينيّة على المستوى العالميّ.

حياة محمد بوديّة مختلفة ومميّزة ومليئة بالتّفاصيل، وتستحق أن توثّق وتحفظ مرجعاً للأجيال، وقد عمل الدّكتور سليم عبادو على ذلك في رواية “قلبٌ في أقصى الذّاكرة” والتي تُعتبر سيرة ذاتيّة لمحمد بوديّة الذي منذ زمنٍ يتساءل كيف يشحذ سيفه من جديد، وهذا السؤال لليوم يحفر عميقاً في وجدان كلّ إنسانٍ حرٍّ شريف ولا جواب واضح فقط إشارات استفهام تلوح في الأفق.

“السّيفُ الذي أستَلُّ..
يصدأ في الحين..

في الوقت ذاته الذي لا رُكَبَ فيه..
تُواصل التسكّع تحت توجيهات العصا والجزرة..
القبضة التي أمدُّ ستنفتح عن حنان..
في اليوم الذي لم تعد فيه الابتسامات..
تسجنها الشِفاه التي رقَّقها الخوف..
سيُصبح المشكل حينها
كيفَ..

كيف نعرف شحذ السّيف من جديد..
ونرفض الأصابع المُخدَّرة عندما تعود المِحن”.

رابط دائم : https://dzair.cc/jfxu نسخ