قدّم الإعلام المغربي الرسمي قرار مجلس الأمن الأخير حول الصحراء الغربية، رقم 2797 (2025)، باعتباره “نصرًا تاريخيًا للدبلوماسية المغربية”، ونُظّمت الاحتفالات في الرباط والعيون بوصف القرار اعترافًا صريحًا بالسيادة المغربية على الإقليم. غير أن قراءة دقيقة للنص الأممي، ولمواقف الدول داخل مجلس الأمن، تُظهر أن ما تحقق هو محاولة فرض انتصار سردي وليس انتصارا قانونيًا، خطوة أخرى في لعبة التوازنات لا في الحسم النهائي للصراع الممتد منذ نصف قرن.
القرار الذي صاغته الولايات المتحدة جدد ولاية بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية (المينورسو) لمدة عام، وأدرج المقترح المغربي للحكم الذاتي لعام 2007 باعتباره “إحدى القواعد الأكثر واقعية” لاستئناف العملية السياسية. لكنه لم يعترف لا صراحة ولا ضمنًا بسيادة المغرب على الإقليم، كما لم يُسقط مبدأ تقرير المصير. إنها صياغة مقصودة — كما يصفها دبلوماسيون في نيويورك — تقوم على الغموض البناء: إرضاء الرباط دون إغضاب القانون الدولي.
فالعبارة الأساسية التي تكررت في القرار هي أن الحكم الذاتي يشكل “إحدى القواعد الممكنة” وليس “القاعدة الوحيدة”. هذا التفصيل اللغوي البسيط كفيل بنسف الادعاء بأن مجلس الأمن تبنى المشروع المغربي كحلّ نهائي. ما يزال المبدأ الأممي الأساسي، أي حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، مذكورًا في النص وإن بعبارات ثانوية، وهو ما يعني أن الملف لم يُغلق بل أعيد ترتيبه ضمن معادلة جديدة: الحكم الذاتي كخيار مفضل، وتقرير المصير كمرجع مؤجل.
التحليل الصادر عن عدد من الخبراء، منهم ريكاردو فابياني من مجموعة الأزمات الدولية، ويحيى زوبير من المعهد الأوروبي للأبحاث المتوسطية، وستيفن زونِس أستاذ العلاقات الدولية في جامعة سان فرانسيسكو، يتفق على أن القرار لا يغير الوضع القانوني القائم. فالصحراء الغربية ما تزال في نظر الأمم المتحدة “إقليمًا غير متمتع بالحكم الذاتي في طور تصفية الاستعمار”، وهو وضع لم يُمس. بل إن القرار ذاته كلّف الأمين العام بتقديم مراجعة استراتيجية خلال ستة أشهر لتقييم مستقبل المينورسو، ما يعني أن المنظمة لا ترى في النص نهاية للمهمة، بل مجرد تمديد مؤقت لمسار متعثر.
تبدو “الانتصارات المغربية” في السنوات الأخيرة ذات طابع دبلوماسي وإعلامي أكثر من كونها مكاسب قانونية. فمراكمة الاعترافات الجزئية (من الولايات المتحدة زمن ترامب، ومن إسرائيل في 2023، ومن دول صغيرة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية) لا تشكل اعترافًا دوليًا ملزمًا، طالما أن الأمم المتحدة — صاحبة الولاية القانونية في النزاعات المتعلقة بتقرير المصير — لم تغيّر تصنيف الإقليم. هذا “الانتصار المغربي” المتوهّم يحمل بذور مأزقه الداخلي: فكل تأجيل للاستفتاء يعني ترسيخًا للوضع الراهن، وكل تمديد للمينورسو يعني اعترافًا ضمنيًا بأن النزاع لم يُحل.
الدول التي دعمت القرار، مثل بريطانيا والدنمارك وسلوفينيا، سارعت إلى تقييد مواقفها بتوضيحات صريحة: تصويتها لصالح القرار لا يعني اعترافًا بـ “سيادة المغرب” على الصحراء الغربية، وأن أي حل يجب أن يضمن حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره. هذه البيانات — رغم أنها تمر في إعلام المخزن دون ضجيج — تفرغ الادعاء المغربي من محتواه القانوني. إنها ببساطة تقول: “ندعم المقاربة الواقعية، لكننا لا نغيّر القانون الدولي”.
أما موسكو وبكين، فامتنعتا عن التصويت احتجاجًا على ما اعتبرتاه “انحيازًا أمريكيًا”، مؤكّدتين أن النص يفتقر إلى التوازن وأنه لم يُناقش بالقدر الكافي بين الأعضاء الدائمين. الامتناع الروسي–الصيني–الباكستاني، إلى جانب غياب الجزائر عن التصويت، يعكس هشاشة “الإجماع” الذي يتحدث عنه الخطاب المغربي.
في الواقع، تكمن خطورة القرار في تحويل الصراع إلى حالة من الغموض المنظم: لا حرب شاملة ولا سلام عادل. فـالمينورسو تواصل عملها بلا هدف واضح، والمفاوضات تراوح مكانها، بينما تستثمر الرباط في الوقت والواقع لفرض احتلالها باعتباره أمرًا واقعًا. ومع كل عام من التمديد، يزداد صعوبة الرجوع إلى منطق الاستفتاء. لكن هذا الاستقرار الزائف لا يعني نهاية الصراع، بل تجميده تحت السطح. فكما يقول الباحث هيو لوفت من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، “حين تُفرض خطة الحكم الذاتي من مجلس الأمن على البوليساريو، فإنك لا تُنهي النزاع بل تُغيّر شكله”.
القرار 2797 إذًا لا يُكرّس سيادة المغرب، ولا يُنهي حق تقرير المصير، ولا يُخرج الملف من دائرة التعطيل. إنه ببساطة وثيقة غامضة تتيح لكل طرف أن يعلن انتصاره: الرباط ترى فيه دعمًا لخطتها، والبوليساريو تعتبره اعترافًا ضمنيًا باستمرار النزاع، والدول الكبرى تتخذه وسيلة لإدارة أزمة لا يريد أحد حلّها فعلاً.
لكن الأهم من كل ذلك هو أن الشرعية الأممية لم تتغيّر: الصحراء الغربية ما تزال إقليمًا غير متمتع بالحكم الذاتي، والاستفتاء ما يزال التزامًا مؤجلًا، والاحتلال – وفق ميثاق الأمم المتحدة – لا يصبح قانونيًا مهما طال أمده أو كثر مَن يصفّق له.
من هنا، فإن ما تحقّق ليس “نصرًا نهائيًا” للمغرب بل انتصارٌ للمخزن في الخطاب الموجّه للداخل، قابل للتآكل مع أول تغيير في موازين القوى أو تبدّل في المزاج الدولي. المغرب ربح سردية الوهمية، لكنه لم يربح السيادة؛ كسب لغة القرار، لكنه لم يكسب القانون. والقرار، مهما طُبّل له، يبقى شاهدًا جديدًا على أن الصحراء الغربية ما تزال بلا حلّ، وأن الأمم المتحدة تمارس إدارة النزاع لا تسويته.
