20 سبتمبر، 2025
ANEP السبت 20 سبتمبر 2025

نافذة على مواقف الجزائر الدولية من أجل التحرر والسلام… مساهمة فوزي سعيداني

نُشر في:
بقلم: فوزي سعيداني
نافذة على مواقف الجزائر الدولية من أجل التحرر والسلام… مساهمة فوزي سعيداني

مقدمة

حين نالت الجزائر استقلالها سنة 1962 بعد حرب تحريرية دامت أكثر من سبع سنوات وقدمت خلالها تضحيات جسامًا، لم يكن انتصارها مجرد حدث وطني محصور في جغرافيا ضيقة.

لقد تحولت تجربة الثورة الجزائرية إلى أيقونة عالمية، استلهمتها الشعوب التواقة للحرية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. كان واضحًا أن الجزائر لم تتحرر كي تنغلق على ذاتها، بل لتجعل من رسالتها التحررية منارة تضيء دروب الآخرين.

منذ اللحظة الأولى لاستقلالها، حملت الجزائر شعارًا راسخًا في سياستها الخارجية: “من أجل أن يحيا العالم حرًا”. هذا المبدأ لم يكن مجرد خطاب رسمي أو شعارات دبلوماسية، بل ممارسة عملية تجسدت في دعم حركات التحرر بلا استثناء، سياسيًا ودبلوماسيًا وعسكريًا وحتى إنسانيًا.

وفي عالم منقسم بين الشرق والغرب زمن الحرب الباردة، كان صوت الجزائر ثالثًا: صوت الشعوب التي ترفض الاستعمار والهيمنة. من فلسطين إلى جنوب إفريقيا، ومن الصحراء الغربية إلى تيمور الشرقية، ومن أنغولا إلى أمريكا اللاتينية، ظل الموقف الجزائري ثابتًا، يؤكد أن التحرر والسلام وجهان لعملة واحدة.

فلسطين: جوهر العقيدة الجزائرية

القضية الفلسطينية لم تكن يومًا ملفًا عابرًا في الدبلوماسية الجزائرية، بل كانت جزءًا من وجدان الشعب الجزائري.

فالتاريخ المشترك بين ثورة الجزائر والثورة الفلسطينية، وما بينهما من روابط الدم والمعاناة، جعل من فلسطين “قضية داخلية” في السياسة الجزائرية.

منذ استقلالها، بادرت الجزائر إلى الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلًا شرعيًا ووحيدًا للشعب الفلسطيني. وعملت على تدويل القضية في المحافل الأممية، حيث لعبت دورًا محوريًا في تمكين ياسر عرفات من إلقاء خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1974. ذلك الخطاب، الذي رفع فيه غصن الزيتون والبندقية، شكّل لحظة تاريخية فارقة في الاعتراف بالقضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني.

وفي نوفمبر 1988، حين اجتمع المجلس الوطني الفلسطيني في قاعة الصنوبر بالجزائر، كان الإعلان عن قيام دولة فلسطين حدثًا رمزيًا يعكس عمق العلاقة بين البلدين. أكثر من مئة دولة سارعت إلى الاعتراف بالدولة الفتية، والفضل في ذلك يعود إلى الحاضنة الجزائرية.

لم يكن الدعم الجزائري سياسيًا فقط، بل شمل الجانب الإنساني والمالي، إضافة إلى المرافعة المستمرة ضد الاحتلال في كل المنابر الدولية. واليوم، رغم موجة التطبيع التي اجتاحت بعض الأقطار العربية، ما تزال الجزائر ثابتة على موقفها: لا سلام دون دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشريف.

جنوب إفريقيا: كسر قيود الأبارتهايد

في أقصى الجنوب من القارة السمراء، كان شعب جنوب إفريقيا يعاني من أبشع نظام عنصري عرفه التاريخ الحديث. الجزائر، التي خرجت تواً من الاستعمار، وجدت في نضال الجنوب إفريقيين انعكاسًا لمعركتها الخاصة.

لم تكتف الجزائر بالدعم السياسي، بل فتحت معسكراتها للمؤتمر الوطني الإفريقي، وقدمت التدريب والخبرة والسلاح. نيلسون مانديلا نفسه اعترف بأن أول بندقية حملها في حياته كانت من الجزائر. وعندما زارها بعد خروجه من السجن، قال عبارته الشهيرة: “الجزائر هي بيتي الثاني”.

في الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية، كانت الجزائر في مقدمة المطالبين بعزل نظام الأبارتهايد وفرض العقوبات الدولية عليه. ومع سقوط النظام العنصري مطلع التسعينيات، بقي اسم الجزائر محفورًا في ذاكرة الجنوب إفريقيين كرمز للتضامن النزيه.

ناميبيا، موزمبيق وأنغولا: التضامن بلا حدود

لم يكن دعم الجزائر مقتصرًا على حالات معينة، بل امتد ليشمل كل قضايا التحرر في القارة الإفريقية.

في ناميبيا، احتضنت الجزائر جبهة SWAPO التي كانت تقود الكفاح ضد الاحتلال الجنوب إفريقي. أسهمت الجزائر في تدويل القضية حتى تحقق الاستقلال سنة 1990.

في موزمبيق، وقفت الجزائر إلى جانب حركة فريليمو، التي كانت تواجه الاستعمار البرتغالي. دعمتها سياسيًا ودبلوماسيًا، حتى نالت الاستقلال سنة 1975.

أما في أنغولا، فقد كانت الجزائر من أبرز الداعمين للحركة الشعبية لتحرير أنغولا (MPLA)، حيث قدمت التدريب والسلاح والخبرة. وبفضل هذا الدعم، استطاع الشعب الأنغولي التخلص من الاستعمار البرتغالي، رغم الحروب الأهلية التي عصفت بالبلاد لاحقًا.

هذه المواقف لم تكن عاطفة عابرة، بل قناعة استراتيجية: أن حرية الجزائر تبقى ناقصة ما دام هناك شعب إفريقي آخر يرزح تحت الاستعمار.

الصحراء الغربية: امتحان المبدأ

منذ اندلاع النزاع في الصحراء الغربية منتصف السبعينيات، وجدت الجزائر نفسها أمام امتحان عسير: هل تساير منطق الجغرافيا والمصالح، أم تتمسك بمبدأ تقرير المصير؟

الجواب كان واضحًا: وقفت الجزائر مع الشعب الصحراوي ومع جبهة البوليساريو باعتبارها ممثله الشرعي. في 27 فبراير 1976، أُعلنت الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، وكانت الجزائر من أوائل الدول التي اعترفت بها.

احتضنت الجزائر عشرات الآلاف من اللاجئين في مخيمات تندوف، وتكفلت بتعليمهم ورعايتهم الصحية. وعلى الصعيد الدبلوماسي، جعلت من قضيتهم بندًا دائمًا على أجندة الأمم المتحدة.

هذا الموقف سبب توترًا مزمنًا مع المغرب، لكنه رسّخ صدقية الجزائر كدولة لا تساوم على المبادئ. بالنسبة لها، الصحراء الغربية ليست نزاع حدود، بل قضية أخلاقية، امتداد لشعار ثورة نوفمبر: “نحن مع الشعوب المظلومة حتى استرجاع حقوقها كاملة”.

جزر القمر وتيمور الشرقية: البعد الأممي

لم يقتصر الدعم الجزائري على إفريقيا وحدها. في المحيط الهندي، ساعدت الجزائر جزر القمر على التخلص من الاستعمار الفرنسي سنة 1975.

وفي جنوب شرق آسيا، تبنت الجزائر قضية تيمور الشرقية التي عانت من الاستعمار البرتغالي ثم الاحتلال الإندونيسي. على منبر الأمم المتحدة، رفعت الجزائر صوتها عاليًا، مطالبة بتمكين الشعب التيموري من تقرير مصيره. وقد تحقق ذلك أخيرًا سنة 2002 بإعلان الاستقلال.

أمريكا اللاتينية وحركات التحرر العالمية

الجزائر تحولت في الستينيات والسبعينيات إلى قبلة للثوار من مختلف أنحاء العالم. كان تشي غيفارا أحد أبرز ضيوفها، حيث اعتبرها قاعدة أساسية للنضال ضد الإمبريالية. كذلك أقامت الجزائر علاقات قوية مع كوبا فيديل كاسترو، ومع حركات الساندينيستا في نيكاراغوا.

احتضنت الجزائر لقاءات جمعت بين ثوار إفريقيا وأمريكا اللاتينية، لتؤكد على وحدة المصير بين شعوب الجنوب في مواجهة الاستعمار الجديد والهيمنة الاقتصادية.

الجزائر وحركة عدم الانحياز

حين استقلت الجزائر، كان العالم مقسمًا بين معسكرين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. الجزائر اختارت طريقًا ثالثًا: طريق عدم الانحياز.

لكنها لم تكن مجرد عضو في الحركة، بل قوة فاعلة. ففي سبتمبر 1973، استضافت الجزائر القمة الرابعة لحركة عدم الانحياز، بحضور أكثر من 70 رئيس دولة وحكومة.

في خطابه التاريخي، دعا الرئيس الراحل هواري بومدين إلى إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد، مؤكدًا أن الاستقلال السياسي لا يكتمل من دون استقلال اقتصادي. هذا الطرح لقي صدى واسعًا في أوساط دول الجنوب، ورسّخ صورة الجزائر كقوة اقتراحية تدافع عن مصالح الشعوب.

كما أسهمت الجزائر في تأسيس مجموعة الـ77 داخل الأمم المتحدة، ما جعلها لاعبًا أساسيًا في توحيد مواقف الدول النامية.

خاتمة

لقد برهنت الجزائر، منذ استقلالها، أن ثورتها لم تكن حدثًا عابرًا، بل مشروعًا إنسانيًا ممتدًا. لم تكتف بتحرير أرضها، بل جعلت من تجربتها مدرسة لدعم حركات التحرر عبر القارات. من فلسطين إلى جنوب إفريقيا، من الصحراء الغربية إلى تيمور الشرقية، ومن أنغولا إلى أمريكا اللاتينية، كانت الجزائر دائمًا في الصفوف الأولى.

هذا الموقف لم يكن سياسة ظرفية ولا حسابات مصالح، بل جزءً من هوية بلد قدّم مليونًا ونصف المليون شهيد في سبيل الحرية. إنه التزام أخلاقي وسياسي يؤكد أن لا عدالة بلا حرية، ولا سلام بلا استقلال، ولا كرامة بلا تقرير مصير.

مساهمة الاعلامي فوزي سعيداني

المراجع

1. نيلسون مانديلا، Long Walk to Freedom، 1994.

2. وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية – أرشيف البيانات والبيانات الصحفية.

3. خطابات ياسر عرفات في الأمم المتحدة (1974، 1988).

4. محاضر قمة حركة عدم الانحياز – الجزائر 1973.

5. تقارير الأمم المتحدة حول قضية الصحراء الغربية (1975 – 2022).

6. تشي غيفارا، الكتابات الإفريقية.

7. مقالات وتحقيقات في الصحافة الجزائرية والعربية حول الدعم الجزائري لحركات التحرر.

رابط دائم : https://dzair.cc/5k05 نسخ